رجال حول الرسول
(
صلّى
الله
عليه وسلّم )
خالد بن الوليد
( لا ينام ولا يترك أحدا ينام
)
إن أمره لعجيب..!!
هذا الفاتك
بالمسلمين يوم أحد والفاتك بأعداء
الإسلام بقية الأيام..!!
ألا فلنأت على
قصته من البداية..
ولكن أية
بداية..؟؟
إنه هو نفسه, لا
يكاد يعرف لحياته بدءا
إلا ذلك اليوم الذي صافح فيه الرسول مبايعا..
ولو استطاع لنحّى
عمره وحياته, كل ماسبق ذلك اليوم من سنين, وأيام..
فلنبدأ معه
إذن من
حيث يحب.. من تلك اللحظة الباهرة التي خشع فيها قلبه لله, وتلقت روحه فيها لمسة من
يمين الرحمن, وكلتا يديه يمي, فنفجّرت شوقا
إلى دينه, وإلى رسوله, وإلى استشهاد
عظيم في سبيل الحق, ينضو عن كاهله أوزار مناصرته الباطل في أيامه الخاليات..
لقد خلا يوما
إلى نفسه, وأدار خواطره الرشيدة على الدين الجديد الذي
تزداد راياته كل يوما تألقا وارتفاعا, وتمنّى على الله علام الغيوب أن يمدّ
إليه من
الهدى بسبب.. والتمعت في فؤاده الذكي بشائر اليقين, فقال:
" والله لقد استقام المنسم....
وان الرجل
لرسول..
فحتى متى..؟؟
أذهب والله,
فأسلم"..
ولنصغ
إليه رضي
الله عنه وهو يحدثنا عن مسيره المبارك
إلى رسول الله عليه الصلاة والسلام, وعن
رحلته من مكة إلى المدينة ليأخذ مكانه في قافلة المؤمنين:
".. وددت لو أجد من أصاحب, فلقيت عثمان بن طلحة, فذكرت له الذي أريد فأسرع
الإجابة, وخرجنا جميعا فأدلجنا سحرا.. فلما كنا بالسهل
إذا عمرو بن العاص, فقال
مرحبا يا قوم,
قلنا: وبك..
قال: أين مسيركم؟
فأخبرناه, وأخبرنا أيضا أنه يريد النبي ليسلم.
فاصطحبنا حتى
قدمنا المدينة أول يوم من صفر سنة ثمان..فلما اطّلعت على رسول الله صلى الله عليه
وسلم سلمت عليه بالنبوّة فردّ على السلام بوجه طلق, فأسلمت وشهدت شهادة الحق..
فقال الرسول: قد
كنت أرى لك عقلا رجوت ألا يسلمك
إلا إلى خير..
وبايعت رسول الله
وقلت: استغفر لي كل ما أوضعت فيه من صدّ عن سبيل الله..
فقال:
إن الإسلام
يجبّ ما كان قبله..
قلت: يا رسول
الله على ذلك..
فقال: اللهم اغفر
لخالد بن الوليد كل ما أوضع فيه من صدّ عن سبيلك..
وتقدّم عمرو بن
العاص, وعثمان بن طلحة, فأسلما وبايعا رسول الله"...
أرأيتم قوله للرسول:" استغفر لي كل ما أوضعت فيه من صدّ عن سبيل
الله"..؟؟
إن الذي يضع هذه
العبارة بصره, وبصيرته, سيهتدي
إلى فهم صحيح لسلك المواقف التي تشبه الألغاز في
حياة سيف الله وبطل
الإسلام..
وعندما نبلغ تلك
المواقف في قصة حياته ستكون هذه العبارة دليلنا لفهمها وتفسيرها-..
أما الآن, فمع
خالد الذي أسلم لتوه لنرى فارس قريش وصاحب أعنّة الخيل فيها, لنرى داهية العرب كافة
في دنيا الكرّ والفرّ, يعطي لآلهة
آبائه وأمجاد قومه ظهره, ويستقبل مع الرسول
والمسلمين عالما جديدا, كتب الله له أن ينهض تحت راية محمد وكلمة التوحيد..
مع خالد
إذن وقد
أسلم, لنرى من أمره عجبا..!!!!
أتذكرون أنباء الثلاثة
شهداء أبطال معركة مؤتة..؟؟
لقد كانوا زيد بن
حارثة, وجعفر بن أبي طالب, وعبدالله بن رواحة..
لقد كانوا أبطال
غزوة مؤتة بأرض الشام.. تلك الغزوة التي حشد لها الروم مائتي ألف مقاتل, والتي أبلى
المسلمون فيها بلاء منقطع النظير..
وتذكرون العبارة
الجليلة الآسية التي نعى بها الرسول صلى الله عليه وسلم قادة المعركة الثلاثة حين
قال:
" أخذ الراية زيد بن حارثة فقاتل بها حتى قتل شهيدا.
ثم أخذها جعفر
فقاتل بها, حتى قتل شهيدا..
ثم أخذها عبدالله
بن رواحة فقاتل بها حتى قتل شهيدا".
كان لحديث رسول
الله صلى الله عليه وسلم هذا بقيّة, ادّخرناها لمكانها على هذه الصفحات..
هذه البقيّة هي:
" ثم أخذ الراية سيف من سيوف الله, ففتح الله علي يديه".
فمن كان هذا
البطل..؟
لقد كان خالد بن الوليد.. الذي سارع
إلى غزوة مؤتة جنديا عاديا تحت قيادة
القواد الثلاثة الذين جعلهم الرسول على الجيش: زيد, وجعفر وعبدالله ابن رواحة,
والذين استشهدوا بنفس الترتيب على ارض المعركة الضارية..
وبعد سقوط آخر
القواد شهيدا, سارع
إلى اللواء ثابت بن أقوم فحمله بيمينه ورفعه عاليا وسط الجيش
المسلم حتى لا
تبعثر الفوضى صفوفه..
ولم يكد ثابت
يحمل الراية حتى توجه بها مسرعا
إلى خالد بن الوليد, قائلا له:
" خذ اللواء يا أبا سليمان"...
ولم يجد خالد من
حقّه وهو حديث العهد
بالإسلام أن يقود قوما فيهم الأنصار والمهاجرون الذين سبقوه
بالإسلام..
أدب وتواضع
وعرفان ومزايا هو لها
أهل وبها جدير!!
هنالك قال مجيبا
ثابت بن أقرم:
" لا آخذ اللواء, أنت أحق به.. لك سن وقد شهدت بدرا"..
وأجابه ثابت:"
خذه, فأنت أدرى بالقتال مني, ووالله ما أخذته
إلا لك".
ثم نادى في
المسلمين: أترضون إمرة خالد..؟
قالوا: نعم..
واعتلى العبقري
جواده. ودفع الراية بيمينه
إلى الأمام كأنما يقرع أبوابها مغلقة آن لها أن تفتح على
طريق طويل لاجب سيقطعه البطل وثبا..
في حياة الرسول
وبعد مماته, حتى تبلغ المقادير بعبقريته الخارقة أمرا كان مقدورا...
ولّي خالد
إمارة
الجيش بعد أن كان مصير المعركة قد تحدد. فضحايا المسلمين كثيرون, وجناهم مهيض..
وجيش الروم في كثرته الساحقة كاسح, ظافر مدمدم..
ولم يكن بوسع أية
كفاية حربية أن تغير من المصير شيئا, فتجعل المغلوب غالبا, والغالب مغلوبا..
وكان العمل
الوحيد الذي ينتظر عبقريا لكي ينجزه, هو وقف الخسائر في جيش
الإسلام, والخروج
ببقيته سالما, أي الانسحاب الوقائي الذي يحول دون هلاك بقية القوة المقاتلة على أرض
المعركة.
بيد أن انسحابا
كهذا كان من الاستحالة بمكان..
ولكن,
إذا كان
صحيحا أنه لا مستحيل على القلب الشجاع فمن أشجع قلبا من خالد, ومن أروع عبقرية
وأنفذ بصيرة..؟؟!
هنالك تقدم سيف الله يرمق أرض القتال الواسعة بعينين كعيني الصقر, ويدير
الخطط في بديهته بسرعة الضوء.. ويقسم جيشه, والقتال دائر,
إلى مجموعات, ثم يكل
إلى
كل مجموعة بمهامها.. وراح يستعمل فنّه المعجز ودهاءه البليغ حتى فتح في صفوف الروم
ثغرة فسيحة واسعة, خرج منها جيش المسلمين كله سليما معافى. بعد أن نجا بسبب من
عبقرية بطل الإسلام من كارثة ماحقة ما كان لها من زوال...!!
وفي هذه المعركة
أنعم الرسول على خالد بهذا اللقب العظيم..
وتنكث قريش عهدها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم, فيتحرك المسلمون تحت
قيادته لفتح مكة..
وعلى الجناح
الأيمن من الجيش, يجعل الرسول خالدا أميرا..
ويدخل خالد مكة,
واحدا من قادة الجيش المسلم, والأمة المسلمة بعد أن شهدته سهولها وجبالها. قائدا من
قوّاد جيش الوثنية والشرك زمنا طويلا..
وتخطر له ذكريات
الطفولة, حيث مراتعها الحلوة.. وذكريات الشباب, حيث ملاهيه الصاخبة..
ثم تجيشه ذكريات
الأيام الطويلة التي ضاع فيها عمره قربانا خاسرا لأصنام عاجزة كاسدة..
وقبل أن يعضّ الندم فؤاده ينتفض تحت روعة المشهد وجلاله..
مشهد المستضعفين
الذين لا تزال جسومهم تحمل آثار التعذيب والهول, يعودون
إلى البلد الذي أخرجوا منه
بغيا وعدوا, يعودون
إليه على صهوات جيادهم الصاهلة, وتحت رايات
الإسلام الخافقة..
وقد تحوّل همسهم الذي كانوا يتناجون به في دار الأرقم بالأمس,
إلى تكبيرات صادعة
رائعة ترجّ مكة رجّا, وتهليلات باهرة ظافرة, يبدو الكون معها, وكأنه كله في
عيد...!!
كيف تمّت
المعجزة..؟
أي تفسير لهذا
الذي حدث؟
لا شيء إلا هذه الآية التي يرددها الزاحفون الظافرون وسط تهليلاتهم
وتكبيراتهم حتى ينظر بعضهم
إلى بعض فرحين قائلين:
( وَعْدَ
اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا
يَعْلَمُونَ
{6}الروم
)..!!
ويرفع خالد رأسه
إلى أعلى. ويرمق في
إجلال وغبطة وحبور رايات
الإسلام
تملأ الأفق.. فيقول لنفسه:
أجل انه وعد الله
ولا يخلف الله وعده..!!
ثم يحني رأسه
شاكرا نعمة ربه الذي هداه
للإسلام وجعله في يوم الفتح العظيم هذا, واحدا من الذين
يحملون راية الإسلام
إلى مكة.. وليس من الذين سيحملهم الفتح على
الإسلام..
ويظل خالد إلى جانب رسول الله, واضعا كفاياته المتفوقة في خدمة الدين
الذي آمن به من كل يقينه, ونذر له كل حياته.
وبعد أن يلحق الرسول بالرفيق الأعلى, ويحمل أبو بكر مسؤولية الخلافة,
وتهبّ أعاصير الردّة غادرة ماكرة, مطوقة الدين الجديد بزئيرها المصمّ وانتفاضها
المدمدم.. يضع أبو بكر عينه لأول وهلة على بطل الموقف ورجل الساعة.. أبي سليمان,
سيف الله, خالد بن الوليد..!!
وصحيح أن أبا بكر
لم يبدأ معارك المرتدين
إلا بجيش قاده هو بنفسه, ولكن ذلك لا يمنع أنه ادّخر خالدا
ليوم الفصل, وأن خالدا في المعركة الفاصلة التي كانت أخطر معارك الردة جميعا, كان
رجلها الفذ وبطلها الملهم..
عندما بدأت جموع المرتدين تتهيأ
لإنجاز مؤامرتها الضخمة, صمم الخليفة
العظيم أبو بكر على أن يقود جيوش المسلمين بنفسه, ووقف زعماء الصحابة يبذلون
محاولات يائسة لصده عن هذا العزم. ولكنه ازداد تصميما.. ولعله أراد بهذا أن يعطي
القضية التي دعا الناس لخوض الحرب من أجلها أهميّة وقداسة, لا يؤكدها في رأيه
إلا
اشتراكه الفعلي في المعارك الضارية التي ستدور رحاها بين قوى
الإيمان, وبين جيوش
الضلال والردة, وإلا قيادته المباشرة لبعض أو لكل القوات المسلمة..
ولقد كانت
انتفاضات الردة بالغة الخطورة, على الرغم من أنها بدأت وكأنها تمرّد عارض..
لقد وجد فيها جميع الموتورين من
الإسلام والمتربصين به فرصتهم النادرة,
سواء بين قبائل العرب, أم على الحدود, حيث يجثم سلطان الروم والفرس, هذا السلطان
الذي بدأ يحسّ خطر
الإسلام الأكبر عليه, فراح يدفع الفتنة في طريقه من وراء
ستار..!!
ونشبت نيران
الفتننة في قبائل: أسد, وغطفان, وعبس, وطيء, وذبيان..
ثم في قبائل: بني
غامر, وهوزان, وسليم, وبني تميم..
ولم تكد
المناوشات تبدأ حتى استحالت
إلى جيوش جرّارة قوامها عشرات الألوف من المقاتلين..
واستجاب للمؤامرة
الرهيبة أهل البحرين, وعمان, والمهرة, وواجه
الإسلام أخطر محنة, واشتعلت الأرض من
حول المسلمين نارا.. ولكن, كان هناك أبو بكر..!!
عبّأ أبو بكر المسلمين وقادهم
إلى حيث كانت قبائل بني عبس, وبني مرّة,
وذبيان قد خرجوا في جيش لجب..
ودار القتال,
وتطاول, ثم كتب للمسلمين نصر مؤزر عظيم..
ولم يكد الجيش
المنتصر يستقر بالمدينة. حتى ندبه الخليفة للمعركة التالية..
وكانت أنباء المرتدين وتجمّعاتهم تزداد كل ساعة خطورة .. وخرج أبو بكر
على رأس هذا الجيش الثاني, ولكن كبار الصحابة يفرغ صبرهم, ويجمعون على بقاء الخليفة
بالمدينة, ويعترض
الإمام علي طريق أبا بكر ويأخذ بزمام راحلته التي كان يركبها وهو
ماض أمام جيشه الزاحف فيقول له:
" إلى أين يا خليفة رسول الله..؟؟
إني أقول لك ما
قاله رسول الله يوم أحد:
لمّ سيفك يا أبا
بكر لا تفجعنا بنفسك..."
وأمام
إجماع مصمم
من المسلمين, رضي الخليفة أن يبقى بالمدينة وقسّم الجيش
إلى إحدى عشرة مجموعة.. رسم
لكل مجموعة دورها..
وعلى مجموعة ضخمة
من تلك المجموعات كان خالد بن الوليد أميرا..
ولما عقد الخليفة
لكل أمير لواءه, اتجه صوب خالد وقال يخاطبه:
" سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: نعم عبدالله. وأخو العشيرة,
خالد بن الوليد, سيف من سيوف الله. سلّه الله على الكفار والمنافقين"..
ومضى خالد إلى سبيله ينتقل بجيشه من معركة
إلى معركة, ومن نصر
إلى نصر
حتى كانت المعركة الفاصلة..
فهناك باليمامة كان بنو حنيفة, ومن انحاز
إليهم من القبائل, قد جيّشوا
أخطر جيوش الردة قاطبة, يقوده مسيلمة الكذاب.
وكانت بعض القوات
المسلمة قد جرّبت حظها مع جيوش مسيلمة, فلم تبلغ منه منالا..
وجاء أمر الخليفة
إلى قائده المظفر أن سر
إلى بني حنيفة.. وسار خالد..
ولم يكد مسيلمة
يعلم أن ابن الوليد في الطريق
إليه حتى أعاد تنظيم جيشه, وجعل منه خطرا حقيقيا,
وخصما رهيبا..
والتقى الجيشان:
وحين تطالع في
كتب السيرة والتاريخ, سير تلك المعركة الهائلة, تأخذك رهبة مضنية,
إذ تجد نفسك أمام
معركة تشبه في ضراوتها
وجبروتها معارك حروبنا الحديثة, وإن
اختلفت
في نوع السلاح وظروف القتال..
ونزل خالد بجيشه
على كثيب مشرف على اليمامة, وأقبل مسيلمة في خيلائه وبغيه, صفوف جيشه من الكثرة
كأنها لا تؤذن بانتهاء..!!
وسّلم خالد الألوية والرايات لقادة جيشه, والتحم الجيشان ودار القتال
الرهيب, وسقط شهداء المسلمين تباعا كزهور حديقة طوّحت بها عاصفة عنيدة..!!
وأبصر خالد رجحان
كفة الأعداء, فاعتلى بجواده ربوة قريبة وألقى على المعركة نظرة سريعة, ذكية
وعميقة..
ومن فوره أدرك
نقاط الضعف في جيشه وأحصاها..
رأى الشعور
بالمسؤولية قد وهن تحت وقع المفاجأة التي دهمهم بها جيش مسيلمة, فقرر في نفس اللحظة
أن يشدّ في أفئدة المسلمين جميعا
إلى أقصاه.. فمضى ينادي
إليه فيالق جيشه وأجنحته,
وأعاد تنسيق مواقعه على أرض المعركة, ثم صاح بصوته المنتصر:
" امتازوا, لنرى اليوم بلاء كل حيّ".
وامتازوا جميعا..
مضى المهاجرون
تحت راياتهم, والأنصار تحت رايتهم " وكل بني أب على رايتهم".
وهكذا صار واضحا
تماما, من أين تجيء الهزيمة حين تجيء واشتعلت الأنفس حماسة, اتّقدت مضاء, وامتلأت
عزما وروعة..
وخالد بين الحين
والحين, يرسل تكبيرة أو تهليلة أو صيحة يلقى بها
أمرا, فتتحوّل سيوف جيشه
إلى
مقادير لا رادّ لأمرها, ولا معوّق لغاياتها..
وفي دقائق معدودة
تحوّل اتجاه المعركة وراح جنود مسيلمة يتساقطون بالعشرات, فالمئات فالألوف, كذباب
خنقت أنفاس الحياة فيه نفثات مطهر صاعق مبيد..!!
لقد نقل خالد حماسته كالكهرباء
إلى جنوده, وحلّت روحه في جيشه جميعا..
وتلك كانت إحدى خصال عبقريّته الباهرة..
وهكذا سارت أخطر
معارك الردة وأعنف حروبها, وقتل مسيلمة..
وملأت جثث رجاله
وجيشه أرض القتال, وطويت تحت التراب
إلى الأبد راية الدّعيّ الكذاب..
وفي المدينة صلى الخليفة لربه الكبير المتعال صلاة الشكر,
إذ منحهم هذا
النصر, وهذا البطل..
وكان أبو بكر قد
أدرك بفطنته وبصيرته ما لقوى الشر الجاثمة وراء حدود بلاده من دور خطير في تهديد
مصير الإسلام وأهله.. الفرس في العراق.. والروم في بلاد الشام..
امبرطوريتان
خرعتان, تتشبثان بخيوط واهنة من حظوظهما الغاربة وتسومان الناس في العراق وفي الشام
سوء العذاب, بل وتسخرهم, وأكثرهم عرب, لقتال المسلمين العرب الذين يحملون راية
الدين الجديدة, يضربون بمعاوله قلاع العالم القديم كله, ويجتثون عفنه وفساده..!
هنالك أرسل
الخليفة العظيم المبارك توجيهاته
إلى خالد أن يمضي بجيشه صوب العراق..
ويمضي البطل
إلى
العراق, وليت هذه الصفحات كانت تتسع لتتبع مواكب نصره,
إذن لرأينا من أمرها عجبا.
لقد استهلّ عمله
في العراق بكتب أرسلها
إلى جميع ولاة كسرى ونوابه على ألوية العراق ومدائنه..
" بسم الله الرحمن الرحيم
من خالد بن
الوليد.. إلى مرازبة فارس..
سلام
على من اتبع الهدى
أما بعد, فالحمد
لله الذي فضّ خدمكم, وسلب ملككم, ووهّن كيدكم
من صلى صلاتنا,
واستقبل قبلتنا, وأكل ذبيحتنا فذلكم المسلم, له ما لنا وعليه ما علينا
إذا جاءكم كتابي
فابعثوا
إليّ بالرهن واعتقدوا مني الذمّة
وإلا, فوالذي لا
إله غيره لأبعثن
إليكم قوما يحبون الموت كما تحبون الحياة"..!!
وجاءته طلائعه التي بثها في كل مكان بأنباء الزّخوف الكثيرة التي يعدها
له قوّاد الفرس في العراق, فلم يضيّع وقته, وراح يقذف بجنوده على الباطل ليدمغه..
وطويت له الأرض طيّا عجيبا.
في الأبلّة,
إلى
السّدير, فالنّجف,
إلى الحيرة, فالأنبار, فالكاظمية. مواكب نصر تتبعها مواكب... وفي
كل مكان تهلّ به رياحه البشريات ترتفع
للإسلام راية يأوي إلى فيئها الضعفاء
والمستعبدون.
أجل, الضعفاء
والمستعبدون من أهل البلد الذين كان الفرس يستعمرونهم, ويسومونهم سوء العذاب..
وكم كان رائعا من
خالد أن بدأ زحفه بأمر أصدره
إلى جميع قوّاته:
" لا تتعرّضوا للفلاحين بسوء, دعوهم في شغلهم آمنين,
إلا أن يخرج بعضهم
لقتالكم, فآنئذ قاتلوا المقاتلين".
وسار بجيشه
الظافر كالسكين في الزبد الطريّ حتى وقف على تخوم الشام..
وهناك دوّت
أصوات المؤذنين, وتكبيرات الفاتحين.
ترى هل سمع الروم
في الشام..؟
وهل تبيّنوا في
هذه التكبيرات نعي أيامهم, وعالمهم..؟
أجل لقد سمعوا..
وفزّعوا.. وقرّروا أن يخوضوا في
جنون معركة اليأس والضياع..!
كان النصر الذي أحرزه
الإسلام على الفرس في العراق بشيرا بنصر مثله على
الروم في الشام..
فجنّد الصدّيق
أبو بكر جيوشا عديدة, واختار
لإمارتها نفرا من القادة المهرة, أبو عبيدة بن الجراح,
وعمرو بن العاص, ويزيد بن أبي سفيان, ثم معاوية بن أبي سفيان..
وعندما نمت أخبار
هذه الجيوش إلى إمبراطور الروم نصح وزراءه وقوّاده بمصالحة المسلمين, وعدم الدخول
معهم في حرب خاسرة..
بيد أن وزراءه
وقوّاده أصرّوا على القتال وقالوا:
" والله لنشغلنّ أبا بكر على أن يورد خيله
إلى أرضنا"..
وأعدوا للقتال
جيشا بلغ قوامه مائتي ألف مقاتل,
وأربعين
ألفا.
وأرسل قادة
المسلمين إلى الخليفة بالصورة الرهيبة للموقف فقال أبو بكر:
" والله لأشفينّ وساوسهم بخالد"..!!!
وتلقى ترياق
الوساوس.. وساوس التمرّد والعدوان والشرك, تلقى أمر الخليفة بالزحف
إلى الشام,
ليكون أميرا على جيوش
الإسلام التي سبقته إليها..
وما
أسرع ما
امتثل خالد وأطلع, فترك على العراق المثنّى بن الحارثة وسار مع قواته التي اختارها
حتى وصل مواقع المسلمين بأرض الشام, وأنجز بعبقريته الباهرة تنظيم الجيش المسلم
وتنسيق مواقعه في وقت وجيز, وبين يدي المعركة واللقاء, وقف في المقاتلين خطيبا فقال
بعد أن حمد ربه وأثنى عليه:
" إن هذا يوم من أيام الله, لا ينبغي فيه الفخر ولا البغي..
أخلصوا جهادكم
وأريدوا الله بعملكم, وتعالوا نتعاور
الإمارة, فيكون أحدنا اليوم أميرا, والآخر
غدا, والآخر بعد غد, حتى يتأمّر كلكم"...
هذا يوم من أيام
الله..
ما أروعها من
بداية..!!
لا ينبغي فيه
الفخر ولا البغي..
وهذه أكثر روعة
وأوفى ورعا!!
ولم تنقص القائد العظيم الفطنة المفعمة
بالإيثار, فعلى الرغم من أن
الخليفة وضعه على رأس الجيش بكل أمرائه, فانه لم
يشأ أن يكون عونا للشيطان على أنفس
أصحابه, فتنازل لهم عن حقه الدائم في
الإمارة وجعلها دولة بينهم..
اليوم أمير,
وغداً
أمير ثان.. وبعد غد أمير آخر.. وهكذا..
كان جيش الروم
بأعداده وبعتاده, شيئا بالغ الرهبة..
لقد أدرك قوّاد
الروم أن الزمن في صالح المسلمين, وأن تطاول القتال وتكاثر المعارك يهيئان لهم
النصر دائما, من أجل ذلك قرروا أن يحشدوا كل قواهم في معركة واحدة يجهزون خلالها
على العرب حيث لا يبقى لهم بعدها وجود, وما من شك أن المسلمين أحسّوا يوم ذاك من
الرهبة والخطر ما ملأ نفوسهم المقدامة قلقا وخوفا..
ولكن
إيمانهم كان
يخفّ لخدمتهم في مثل تلك الظلمات الحالكات,
فإذا فجر الأمل والنصر يغمرهم بسناه..!!
ومهما يكن بأس الروم وجيوشهم, فقد قال أبو بكر, وهو بالرجال جدّ خبير:
" خالد لها".!!
وقال:" والله,
لأشفينّ وساوسهم بخالد".
فليأت الروم بكل
هولهم, فمع المسلمين الترياق..!!
عبأ ابن الوليد
جيشه, وقسمه إلى فيالق, ووضع للهجوم والدفاع خطة جديدة تتناسب مع طريقة الروم بعد
أن خبر وسائل إخوانهم الفرس في العراق.. ورسم للمعركة كل مقاديرها..
ومن عجب أن
المعركة دارت كما رسم خالد وتوقع, خطوة خطوة, وحركة حركة, حتى ليبدو وكأنه لو تنبأ
بعدد ضربات السيوف في المعركة, لما أخطأ التقدير والحساب..!!
كل مناورة توقعها
من الروم صنعوها..
كل انسحاب تنبأ
به فعلوه..
وقبل أن يخوض
القتال كان يشغل باله قليلا, احتمال قيام بعض جنود جيشه بالفرار, خاصة أولئك الذين
هم حديثو العهد
بالإسلام, بعد أن رأى ما ألقاه منظر جيش الروم من رهبة وجزع..
وكان خالد يتمثل
عبقرية النصر في شيء واحد, هو الثبات..
وكان يرى أن حركة
هروب يقوم بها اثنان أو ثلاثة, يمكن أن تشيع في الجيش من الهلع والتمزق ما لا يقدر
عليه جيش العدو بأسره...
من أجل هذا, كان
صارما, تجاه الذي يلقي سلاحه ويولي هاربا..
وفي تلك الموقعة
بالذات موقعة اليرموك, وبعد أن أخذ جيشه مواقعه, دعا نساء المسلمين, ولأول مرّة
سلّمهن السيوف, وأمرهن, بالوقوف وراء صفوف المسلمين من كل جانب وقال لهن:
" من يولّي هاربا فاقتلنه"..
وكانت لفتة بارعة
أدت مهمتها على أحسن وجه..!!
وقبيل بدء القتال
طلب قائد الروم أن يبرز
إليه خالد ليقول له بضع كلمات ..
وبرز
إليه خالد,
حيث تواجها فوق جواديهما في الفراغ الفاصل بين الجيشين..
وقال ماهان قائد
الروم يخاطب خالدا"
" قد علمنا أنه لم يخرجكم من بلادكم
إلا الجوع والجهد..
فان شئتم, أعطيت
كل واحد منكم عشرة دنانير, وكسوة, وطعاما, وترجعون
إلى بلادكم, وفي العام القادم
أبعث إليكم بمثلها".!!
وضغط خالد الرجل
والبطل على أسنانه, وأدرك ما في كلمات قائد الروم من سوء الأدب..
وقرر أن
يردّ
عليه بجواب مناسب, فقال له:
" انه لم يخرجنا من بلادنا الجوع كما ذكرت, ولكننا قوم نشرب الدماء, وقد
علمت أنه لا دم أشهى وأطيب من دم الروم, فجئنا لذلك"..!!
ولوى البطل زمام
جواده عائدا إلى صفوف جيشه. ورفع اللواء عاليا مؤذنا بالقتال..
" الله أكبر"
" هبّي رياح الجنة"..
كان جيشه يندفع
كالقذيفة المصبوبة.
ودار قتال ليس
لضراوته نظير..
وأقبل الروم في
فيالق كالجبال..
وبدا لهم من
المسلمين ما لم يكونوا يحتسبون..
ورسم المسلمون
صورا تبهر الألباب من فدائيتهم وثباتهم..
فهذا أحدهم يقترب
من أبي عبيدة بن الجرّاح رضي الله عنه والقتال دائر ويقول:
" إني قد عزمت على الشهادة, فهل لك من حاجة
إلى رسول الله صلى الله عليه
وسلم أبلغها له حين ألقاه"؟؟
فيجيب أبو عبيدة:
" نعم قل له: يا رسول الله
إنا قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقا".
ويندفع الرجل
كالسهم المقذوف.. يندفع وسط الهول مشتاقا
إلى مصرعه ومضجعه.. يضرب بسيفه, ويضرب
بآلاف السيوف حتى يرتفع شهيدا..!!
وهذا عكرمة بن
أبي جهل..
أجل ابن أبي
جهل..
ينادي في
المسلمين حين ثقلت وطأة الروم عليهم قائلا:
" لطالما قاتلت رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يهدني الله
الإسلام,
أفأفرّ من أعداء الله اليوم"؟؟
ثم يصيح:" من
يبايع على الموت"..
فيبايعه على
الموت كوكبة من المسلمين, ثم ينطلقون معا
إلى قلب المعركة لا باحثين عن النصر, بل
عن الشهادة.. ويتقبّل الله بيعتهم وبيعهم,
فيستشهدون..!!
وهؤلاء آخرون
أصيبوا بجراح أليمة, وجيء لهم بماء يبللون به أفواههم, فلما قدم الماء
إلى أولهم,
أشار إلى الساقي أن أعط أخي الذي بجواري فجرحه أخطر, وظمؤه أشد.. فلما قدّم
إليه الماء ,
أشار بدوره لجاره. فلا انتقل
إليه أشار بدوره لجاره..
وهكذا, حتى..
جادت أرواح أكثرهم ظامئة.. ولكن أنضر ما تكون تفانيا
وإيثارا..!!
أجل..
لقد كانت معركة
اليرموك مجالا لفدائية يعز نظيرها.
ومن بين لوحات
الفداء الباهرة التي رسمتها عزمات مقدرة, تلك اللوحة الفذة.. لوحة تحمل صورة خالد
بن الوليد على رأس مائة لا غير من جنده, ينقضّون على ميسرة الروم وعددها أربعون ألف
جندي, وخالد يصيح في المائة الذين معه:
" والذي نفسي بيده ما بقي مع الروم من الصبر والجلد
إلا ما رأيتم.
واني لأرجو أن
يمنحكم الله أكتافهم".
مائة يخوضون في
أربعين ألف.. ثم ينتصرون..!!
ولكن أي عجب؟؟
أليس
ملأ قلوبهم
إيمان بالله العلي الكبير..؟؟
وإيمان برسوله
الصادق الأمين صلى الله عليه وسلم؟؟
وإيمان بقضية هي
أكثر قضايا الحياة برا, وهدى ونبلا؟
وأليس خليفتهم الصديق رضي الله عنه, هذا الذي ترتفع راياته فوق الدنيا,
بينما هو في المدينة’ العاصمة الجديدة للعالم الجديد, يحلب بيده شياه الأيامى,
ويعجن بيده خبز اليتامى..؟؟
وأليس قائدهم
خالد بن الوليد ترياق وساوس التجبر, والصلف, والبغي, والعدوان, وسيف الله المسلول
على قوى التخلّف والتعفّن والشرك؟؟
أليس ذلك,
كذلك..؟
إذن, هبي رياح
النصر...
هبّي قويّة
عزيزة, ظافرة, قاهرة...
لقد بهرت عبقرية خالد قوّاد الروم وأمراء جيشهم, مما حمل أحدهم, واسمه
جرجح على أن يدعو خالدا للبروز
إليه في إحدى فترات الراحة بين القتال.
وحين يلتقيان,
يوجه القائد الرومي حديثه
إلى خالد قائلا:
" يا خالد, أصدقني ولا تكذبني فان الحرّ لا يكذب..
هل أنزل على
نبيّكم سيفا من السماء فأعطاك
إيّاه, فلا تسلّه على أحد
إلا هزمته"؟؟
قال خالد: لا..
قال الرجل:
فبم سميّت
بسيف
الله"؟
قال خالد:
إن
الله بعث فينا نبيه, فمنا من صدّقه ومنا من كذّب. وكنت فيمن كذّب حتى أخذ الله
قلوبنا إلى الإسلام, وهدانا برسوله فبايعناه..
فدعا لي الرسول,
وقال لي: أنت سيف من سيوف الله, فهكذا سميّت.. سيف الله".
قال القائد
الرومي: وإلام تدعون..؟
قال خالد:
إلى توحيد الله,
وإلى الإسلام.
قال:
هل لمن يدخل في
الإسلام اليوم مثل ما لكم
من المثوبة والأجر؟
قال خالد: نعم
وأفضل..
قال الرجل: كيف
وقد سبقتموه..؟
قال خالد:
لقد عشنا مع رسول
الله صلى الله عليه وسلم, ورأينا آياته ومعجزاته وحق لمن رأى ما رأينا, وسمع ما
سمعنا أن يسلم في يسر..
أما أنتم يا من
لم تروه ولم تسمعوه, ثم آمنتم بالغيب, فان أجركم أجزل وأكبر
، صدقتم الله سرائركم
ونواياكم.
وصاح القائد
الرومي, وقد دفع جواده
إلى ناحية خالد, ووقف بجواره:
علمني
الإسلام يا
خالد"".!!!
وأسلم وصلى
ركعتين لله عز وجل.. لم يصلّ سواهما, فقد استأنف الجيشان القتال.. وقاتل جرجه
الروماني في صفوف المسلمين مستميتا في طلب
الشهادة حتى نالها وظفر بها..!!
وبعد, فها نحن أولاء نواجه العظمة
الإنسانية في مشهد من أبهى مشاهدها..
إذ كان خالد يقود جيوش المسلمين في هذه المعركة الضارية, ويستلّ النصر من بين أنياب
الروم استلالا فذا, بقدر ما هو مضن ورهيب,
وإذا به يفاجأ بالبريد القادم من المدينة
من الخليقة الجديد, أمير المؤمنين عمر بن الخطاب.. وفيه تحيّة الفاروق للجيش
المسلم, نعيه خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بكر الصديق رضي الله عنه,
وتولية أبي عبيدة بن الجرّاح مكانه..
قرأ خالد الكتاب,
وهمهم بابتهالات الترحّم على
أبي بكر والتوفيق لعمر..
ثم طلب من حامل
الكتاب ألا يبوح لأحد بما فيه وألزمه مكانه أمره ألا يغادره, وألا يتصل بأحد.
استأنف قيادته
للمعركة مخفيا موت أبي بكر, وأوامر عمر حتى يتحقق النصر الذي بات وشيكا وقريبا..
ودقّت ساعة
الظفر, واندحر الروم..
وتقدّم البطل من أبي عبيدة مؤديا
إليه تحيّة الجندي لقائده... وظنها أبو
عبيدة في أول الأمر دعابة من دعابات القائد الذي حقق نصرا لم يكن في الحسبان.. بيد
أنه ما فتئ أن رآها حقيقة وجدّا, فقبّل خالد بين عينيه, وراح يطري عظمة نفسه
وسجاياه..
وثمّت رواية تاريخية أخرى, تقول:
إن الكتاب أرسل من أمير المؤمنين عمر
إلى أبي عبيدة, وكتم أبو عبيدة النبأ عن خالد حتى انتهت المعركة..
وسواء كان الأمر
هذا أو ذاك, فان مسلك خالد في كلتا الحالتين هو الذي يعنينا.. ولقد كان مسلكا بالغ
الروعة والعظمة والجلال..
ولا أعرف في حياة
خالد كلها موقفا ينبئ
بإخلاصه العميق وصدقه الوثيق, مثل هذا الموقف...
فسواء عليه أن يكون أميرا, أو جنديا..
إن الإمارة
كالجندية, كلاهما سبب يؤدي به واجبه نحو الله الذي آمن به, ونحو الرسول الذي بايعه,
ونحو الدين الذي اعتنقه وسار تحت رايته..
وجهده المبذول
وهو أمير مطاع.. كجهده المبذول وهو جندي مطيع..!
ولقد هيأ له هذا
الانتصار العظيم على النفس, كما هيأه لغيره, طراز الخلفاء الذين كانوا على راس
الأمة المسلمة والدولة المسلمة يوم ذاك..
أبو بكر وعمر..
اسمان لا يكاد
يتحرّك بهما لسان, حتى يخطر على البال كل معجز من فضائل
الإنسان, وعظمة الإنسان..
وعلى الرغم من
الودّ الذي كان مفقودا أحيانا بين عمر وخالد, فان نزاهة عمر وعدله,وورعه وعظمته
الخارقة, لم تكن قط موضع
تساؤل لدى خالد..
ومن ثم لم تكن
قراراته موضع
شك, لأن الضمير الذي يمليها, قد بلغ من الورع, ومن الاستقامة, ومن
الإخلاص والصدق أقصى ما يبلغه ضمير منزه ورشيد..
لم يكن أمير المؤمنين عمر يأخذ على خالد من سوء, ولكنه كان يأخذ على سيفه
التسرّع, والحدّة..
ولقد عبّر عن هذا
حين اقترح على أبي بكر عزله
إثر مقتل مالك بن نويرة, فقال:
" إن في سيف خالد رهقا"
أي خفة وحدّة
وتسرّع..
فأجابه الصدّيق
قائلا:
" ما كنت لأشيم سيف سلّه الله على الكافرين".
لم يقل عمر
إن في
خالد رهقا.. بل جعل الرهق لسيفه لا لشخصه, وهي كلمات لا تنمّ عن أدب أمير المؤمنين
فحسب, بل وعن تقديره لخالد أيضا..
وخالد رجل حرب من
المهد إلى اللحد..
فبيئته, ونشأته,
وتربيته وحياه كلها, قبل
الإسلام وبعده كانت كلها وعاء لفارس, مخاطر, داهية..
ثم إن إلحاح ماضيه قبل السلام, والحروب التي خاضها ضد الرسول وأصحابه,
والضربات التي أسقط بها سيفه أيام الشرك رؤوسا مؤمنة, وجباها عابدة, كل هذا كان له
على ضميره ثقل مبهظ, جعل سيفه توّاقا
إلى أن يطوّح من دعامات الشرك أضعاف ما طوّح
من حملة الإسلام..
وإنكم لتذكرون
العبارة التي أوردناها أوّل هذا الحديث والتي جاءت في سياق حديثه مع رسول الله صلى
الله عليه وسلم
إذ قال له:
" يا رسول الله..
استغفر لي كل ما
أوضعت فيه عن صدّ عن سبيل الله".
وعلى الرغم من
إنباء الرسول صلى الله عليه وسلم
إياه, بأن الإسلام يجبّ ما كان قبله, فانه يظل
يتوسل على الظفر بعهد من الرسول صلى الله عليه وسلم أن يستغفر الله له فيما صنعت من
قبل يداه..
والسيف حين يكون
في يد فارس خارق كخالد بن الوليد, ثم يحرّك اليد القابضة عليه ضمير متوهج بحرارة
التطهر والتعويض, ومفعم بولاء مطلق لدين تحيط به
المؤامرات والعداوات, فان من الصعب
على هذا السيف أن يتخلى عن مبادئه الصارمة, وحدّته الخاطفة..
وهكذا رأينا سيف خالد يسبب لصاحبه المتاعب.
فحين أرسله النبي
عليه الصلاة والسلام بعد الفتح
إلى بعض قبائل العرب القريبة من مكة, وقال له:
" إني أبعثك داعيا لا مقاتلا".
غلبه سيفه على
أمره ودفعه إلى دور المقاتل.. متخليا عن دور الداعي الذي أوصاه به الرسول مما جعله
عليه السلام ينتفض جزعا وألما حين بلغه صنيع خالد.. وقام مستقبلا القبلة, رافعا
يديه, ومعتذرا
إلى الله بقوله:
" اللهم إني أبرأ
إليك مما صنع خالد".
ثم أرسل عليّا
فودى لهم دماءهم وأموالهم.
وقيل
إن خالدا
اعتذر عن نفسه بأن عبدالله بن حذافة السهمي قال له:
[f